إصلاح مع وقف التنفيذ.. لماذا لا تكفي تعديلات يوليو لحماية القضاء اللبناني من التدخل؟
إصلاح مع وقف التنفيذ.. لماذا لا تكفي تعديلات يوليو لحماية القضاء اللبناني من التدخل؟
دخل لبنان مرحلة حساسة من نقاش استقلال القضاء بعد إقرار مجلس النواب قانون تنظيم القضاء العدلي في 31 يوليو الماضي، فقد قدّم القانون تقدما ملحوظا في بعض الجوانب التنظيمية والانتخابية داخل الجسم القضائي، لكنه ترك ثغرات كبيرة تكفي لإبقاء سلطة السياسة على مسار العدالة، وفق تقييمات منظمات حقوقية محلية ودولية، كما بقي مفتوحا لتوجيهات النائب العام التمييزي لمدعين عامين آخرين بوقف إجراءات قائمة، وتقييد قدرة مجلس القضاء الأعلى على تجاوز الجمود السياسي في التعيينات، وهو ما يضرب جوهر الاستقلال المؤسسي للقضاء.
تقدم جزئي في الحكم الذاتي القضائي
القانون أقر توسعة مشاركة قضاة لبنان في انتخاب ممثليهم داخل مجلس القضاء الأعلى وبعض المناصب، ومنح مزيدا من الحكم الذاتي بشأن الترقيات والتأديب وتوزيع القضايا، وأكد صراحة حق القضاة في حرية التعبير وتكوين الجمعيات ضمن ضوابط داخلية، هذه البنود تنسجم مع مطالب رفعتها منذ سنوات مجموعات من القضاة ومنظمات حقوقية لبنانية سعت إلى إخراج السلطة القضائية من أسر الوصاية التنفيذية، وفق منظمة "هيومن رايتس ووتش".
في المقابل، أبقى النص على صلاحية واسعة للنائب العام التمييزي المعيّن حكوميا بإيعاز وقف ملفات قائمة لدى مدعين عامين أدنى رتبة، كما اشترط أكثرية معززة داخل مجلس القضاء الأعلى لتمرير تعيينات قضائية تعترضها الحكومة، ما يجعل المجلس رهينة التوازنات نفسها التي عطّلت التعيينات منذ سنوات، وهذه الصياغات هي بالضبط ما حذرت منه منظمات مثل هيومن رايتس ووتش ولجنة البندقية التي أوصت بأن تكون أغلبية أعضاء مجلس القضاء الأعلى منتخبين من القضاة أنفسهم، لا من المعيّنين سياسيا.
ارتباك تشريعي وغموض سياسي
المسار التشريعي نفسه لم يخلُ من ارتباك وإدخال تعديلات في اللحظات الأخيرة، بحسب شهادات نواب وصحفيين ومنظمات متابعة للعمل البرلماني، الأمر الذي زاد الشكوك حول جودة الصياغة النهائية وشفافية التصويت، وعلى الرغم من الترحيب الحكومي المبدئي بمسار الإصلاح منذ مايو، فإن ائتلاف استقلال القضاء في لبنان و”المفكرة القانونية” شددا قبيل الجلسة وبعدها على أن الخطوة ما تزال دون المعايير الدولية وتحتاج تعديلات تضمن غلبة المنتخبين داخل مجلس القضاء الأعلى وتحول دون أي وصاية تنفيذية على النيابة العامة.
صوت القضاة والمجتمع المدني
ورأى نادي قضاة لبنان وناشطون قانونيون أن القانون، بصيغته الأخيرة، يكرس الطائفية والتدخل السياسي بدل تفكيكهما، ويقصّر في منح المجلس الأعلى للقضاء استقلالا إداريا وماليا فعليا، كما دعت منظمات لبنانية ودولية إلى استكمال الإصلاح بإخراج المدنيين من ولاية المحاكم العسكرية وحصر اختصاصها بالقضايا العسكرية البحتة، وهو مطلب مزمن تعود جذوره إلى انتهاكات موثقة لمحاكمات مدنيين أمام القضاء العسكري، وفق منظمة العفو الدولية.
توصيات لجنة البندقية، المرجعية الأوروبية الدستورية الأهم، واضحة حيث تتضمن انتخاب أغلبية أعضاء مجلس القضاء الأعلى من القضاة، وتقييد سلطة السلطتين التنفيذية والتشريعية على مفاصل العمل القضائي، وضمان مسارات تعيينات وترقيات وتأديب شفافة، وجوهر هذه التوصيات أن استقلال القضاء ليس إجراء شكليا بل منظومة ضمانات مجتمعة، وكل ثغرة واحدة فيها كفيلة بإعادة إنتاج السيطرة السياسية على العدالة.
أزمة العدالة اليومية
بعيدا عن النصوص، تكشف السنوات الأخيرة ثمن التعطيل على الناس، حيث أطاح الانهيار المالي الذي بدأ في 2019 بقيمة رواتب القضاة والموظفين القضائيين وأدى إلى إضرابات طويلة، عطلت المحاكم وعلّقت مصائر آلاف الموقوفين والمتقاضين، وفي ذروة الأزمة عام 2022 سُجل أطول إضراب قضائي في تاريخ لبنان الحديث، وانحسر العمل القضائي إلى حد الشلل قبل تعليق الإضراب مطلع 2023 وسط حلول مالية مؤقتة، وهذا الإرهاق المؤسسي لا يُعالج إلا بإصلاح استقلالي شامل.
العدالة الانتقالية والجرائم الكبرى
ملف انفجار مرفأ بيروت ظل المثال الأبرز على هشاشة استقلال القضاء أمام نفوذ السياسة، فبين تجميد التحقيق وطلبات الرد المتبادلة والضغوط على المحققين، بقيت عائلات أكثر من مئتين من الضحايا وآلاف المصابين بلا حقيقة أو محاسبة نهائية، وقد طالبت أصوات أممية وحقوقية متكررة بتحقيق مستقل وبضمان قضاء قادر على السير في ملفات حساسة بلا خطوط حمراء سياسية أو طائفية وبحسب "المبادرة القانونية" فإن الإصلاح التشريعي الذي لا يحصّن القاضي من تدخل السلطة لن يبدد هذه الظلال.
تُظهر مؤشرات الحوكمة والفساد أن القضاء المستقل ليس رفاهية، فقد حصل لبنان في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024 على 24 نقطة من مئة وجاء في المرتبة الـ154 عالميا من أصل 180 دولة، وهو ترتيب يعكس هشاشة منظومة النزاهة وتضارب المصالح وتآكل الثقة العامة بالمؤسسات، وفي القلب منها القضاء، وبحسب "هيومن رايتس ووتش" فإن أي تعديل لا يُترجم إلى استقلال فعلي يهدد بأن يصبح ورقة تجميل تُضاف إلى سجل لا يزال مقلقا.
التوصيات والخيارات أمام السلطة
المطلوب سريعاً، وفق المنظمات الحقوقية الدولية ومنها منظمة "العفو الدولية"، تعديل مواد تمس جوهر الاستقلال تتمثل في إعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى بأغلبية منتخبة من القضاة، ضبط سلطة النائب العام التمييزي ومنع توجيهاته من تعطيل إجراءات قائمة إلا ضمن قيود قضائية صارمة وقابلة للطعن، وضع جدول زمني شفاف وملزم للتعيينات القضائية يقطع تأثير التعطيل السياسي، وتحرير الموازنة القضائية من الارتهان التنفيذي عبر آليات تمويل وإدارة مستقلة وخاضعة للرقابة، إضافة إلى ذلك يجب إنهاء محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، وتمكين آليات مناهضة التعذيب والاحتجاز التعسفي من الوصول إلى القضاء العادي والمستقل.
عدالة الناس أولاً
في نهاية المطاف، معيار النجاح ليس ما يُكتب في القانون بل ما يلمسه الناس في يومياتهم من سرعة الفصل في القضايا، والشفافية في قرارات النيابة، وحماية المبلغين والصحفيين، وكرامة المتقاضين والموقوفين، لأن القضاء الذي يطمئن الضعفاء قبل الأقوياء هو وحده القادر على إعادة بناء الثقة في دولة مهتزّة، وبين قانون تقدّمي في جوانب وثغرات قاتلة في أخرى، يبقى السؤال معلقا: هل تتحول هذه اللحظة إلى فرصة لاستكمال الإصلاح وفق المعايير الدولية، أم تُدفن في ركام صفقات جديدة؟
يذكر أن النقاش الحديث حول استقلال القضاء ظهر في لبنان منذ 2018 حين قدّم ائتلاف من منظمات حقوقية مسودة متكاملة لاستبدال المرسوم 150 لعام 1983 الناظم للسلطة القضائية، مؤكدا معايير انتخابية وشفافية تتوافق مع توصيات لجنة البندقية، في 2022 أصدرت اللجنة رأيا مفصلا شدد على انتخاب أغلبية مجلس القضاء الأعلى من القضاة وتقليص التعيين السياسي، وهي مبادئ كررتها في آراء لاحقة حول القضاء الإداري، ومنذ 2019 تسبّب الانهيار المالي في تآكل رواتب القضاة والموظفين وإضرابات متكررة عطلت المحاكم، فيما بقيت تعيينات أساسية مجمّدة منذ 2020.
على صعيد حقوق الإنسان، وثّقت منظمات دولية استمرار محاكمة مدنيين أمام القضاء العسكري خلافا للمعايير الدولية، إضافة إلى ضعف تنفيذ قانون مناهضة التعذيب الصادر عام 2017.
في 31 يوليو 2025 اعتمد البرلمان قانون تنظيم القضاء العدلي مع إصلاحات جزئية، فاعتبرته منظمات كبرى خطوة ناقصة تستلزم تعديلات عاجلة قبل دخوله حيز النفاذ لضمان استقلال فعلي ومتسق مع القانون الدولي لحقوق الإنسان ومعايير الأمم المتحدة بشأن استقلال القضاء والمحامين.